لم يجد الكاتب ردًّا مناسبًا ليبرر فيه تأخره عن كتابة روايته التي شرع بكتابتها منذ سنة تقريبًا. وفي الوقت نفسه، وجد نفسه عاجزًا أيضًا، عن تبرير تأخره في كتابة مقالته الأسبوعية للمجلة التي ينشر فيها عادةً. سأل الكاتب صديقه: - "ماذا حدث؟ لماذا لم أعد قادرًا على الكتابة، والتفكير، وأنا من أصدر عشرات المؤلفات، وكتب مئات المقالات؟". أعاد الصديق ضبط مقعده، ثم رفع يده ليقول بلغة الواثق من جوابه: - إنه الملل يا عزيزي... ابتسم الكاتب ابتسامة من تفاجأ بشروق الشمس، على الرغم من أن الشمس تشرق كل صباح. وظن أن هذا هو الجواب الشافي الذي يصف حالته. لكن، لمَ لا يكتب عن الملل إذًا من خارج مشرحة العلم، والتحليل النفسي الدقيق؟ وأعاد طرح السؤال على نفسه بلغة المشكك وغير الواثق من الجواب: هل الملل حقًا يسبب حالة الجمود، والعجز عن الكتابة والتفكير والتقدم؟ هل هذا الرأي خاطئ أم صحيح؟ إذا نظر المرء إلى حركة التاريخ، للاحظ أن الملل هو الروح المحرك للحداثة والكتابة (الإلهام)، في سياق حضور إنساني كان يهرب باستمرار من الروتين والرتابة إلى كشف يثير الأسئلة والقلق والدهشة. فمن إنسان خاف من القمر فعبده، إلى آخر خاف من الرعد فعبده، إلى إنسان قدّس الجسد الذي فدى العالم من خطيئته الأولى ومن خلاله لامس التجلي الإلهي وصولا إلى إنسان عرف الله بالعقل. هذه الحركية التاريخية لعبادة الإنسان أمكن للمرء أن يطلق على كل مرحلة منها حداثة، بحيث هي حالة تنفي ما سبقها لتخلق حالتها الجديدة، وساعية في الوقت نفسه إلى استشراف مجهول تخاف منه، وتسعى إلى فهمه بعد أن يدبّ فيها الملل مما هو سائد. هناك من يرى أن للملل هذه السطوة الظاهرية، فالحضارة الإنسانية تبرهن ما هو عكس ذلك، بحيث روح المغامرة والاكتشاف وحب السيطرة والتحكم وفكرة أن نجعل الحياة أكثر سهولة، لها الدور الأبرز في تقدم الإنسانية المستمر . في المقابل، لعل الكثير من المثقفين اطلع على رواية ألبرتو مورافيا (Alberto Moravia) "السأم" (La noia / 1960) التي يذكر فيها أن سبب خلق الأرض والإنسان والوجود كله يعود إلى سئمٍ دبّ في مزاج الله، هذه الإشارة التي تنتمي إلى عالم سردي إبداعي ما هي إلا ملامسة دقيقة لخطورة السأم / الملل ومدى تأثيره في حركة الدنيا، ودفعها إلى المابعد بخطوات مترددة أحيانًا وأحيانًا بخطوات واثقة وثابتة. الملل هو رد فعل وليس الفعل، وينتج من ركود ما أو نسق دائري يمارس دومًا الحركة نفسها، وبمعنى آخر إذا كان الملل ناتجًا من رتابة الدائرة، فان الحداثة أو الكتابة (الإلهام) تأتي لتكسر هذه الدائرة، وتحاول أن تجعلها خطًا يصل إلى نقطة مختلفة، لم تُعبر من قبل. فهي بهذا المعنى، أرض بكر لها وهجها الخاص ومساحاتها التي بحاجة الى اكتشاف وفهم وإدراك، وساعتئذٍ تعود لتتخذ شكل الدائرة، فتأتي حداثة / كتابة أخرى لتكسر هذا الطوق من جديد وتدفعه إلى الأمام. هذه الحركة التي تشابه الحركة الميكانيكة شكلا، لا تتم بسهولة، بحيث كل مرحلة ينتج منها مريدون، يستبسلون بالدفاع عنها، والحفاظ على نقاطها المحددة والمعروفة، إنما تختلف كل مرحلة بحجم القوة المدافعة عنها والأشخاص الرافعين لوائها لتبقى ضمن سياقها التي انطلقت منه وتراكمت فيه. إذ هؤلاء المريدون يحاولون باستمرار تبرير الإحساس بالملل بالتجربة والامتحان، وبالتالي يركز خطابهم دومًا على الصبر والتحلي بالمقدرة على تراكم حركة الدائرة ليفوزوا بالوقوع/ الموت وهم ضمنها لا خارجها. تأمل الكاتب ما كتبه عن الملل، ابتسم مجددًا، بعد أن لمح علامات الاهتمام على وجه صديقه وهو يقرأ ما كتبه... وقد التفت إليه متعجبًا: إن لم يكن الملل السبب، فما أصابك إذًا، عندما قلت: إنك غير قادر على الكتابة؟ * شاعر وأستاذ جامعي من لبنان