أقرأ على مواقع التواصل الاجتماعي تذمر بعض الشعراء والكتّاب الشباب من عدم التفاعل مع ما يكتبونه، أو ما ينشرونه في بعض المواقع المخصصة للكتابة الأدبية. ولا يمكن للمرء أن ينسى المقولة المعروفة والتي تتردد على مسامعه باستمرار، وهي: إن كتب الأدب عمومًا، والشعر خصوصًا لا تطعم خبزًا. لذا يجد المرء أن معظم الأدباء والشعراء، وعلى الرغم من شهرة بعضهم، يمارسون أعمالاً أخرى كي يتمكنوا من العيش، ولا سيما في مجالات التعليم والصحافة. أمام هذا الواقع الصعب، والمعقد، ماذا يمكن للمرء أن يفعل؟ هل يستسلم، ويتوقف عن ممارسة الشيء الذي يحبه؟ هل يمنع نفسه من التعبير والكتابة لأن ذلك "لا يطعم خبزًا"، أو لأن ما يكتبه لا يجد رواجًا واقبالاً من القرّاء؟ في طبيعة الحال، لا تدعي هذه المقالة اجتراح المعجزات. كذلك لا تدعي أنها تستطيع أن توفر طرائق سحرية، فمن يتبعها سيجد نفسه بلحظات، شاعرًا محبوبًا، أو روائيًا عظيمًا، أو كاتبًا يهزّ بقلمه المجتمع والكرة الأرضية. كذلك لا تدعي هذه المقالة، وجود خفايا وأسرار تجعل من يعرفها من أغنى الأغنياء. إنما كل ما تسعى إليه هذه المقالة، هو الإضاءة على بعض النقاط، وتوضيحها للكاتب أو الشاعر الشاب نفسه، بهدف تجويد عمله الإبداعي، على قاعدة: ابدأ بنفسك قبل أن تنتقد الآخرين، ولا سيما أننا جميعًا، نلاحظ وجود ملايين الأشخاص الذين يكتبون على المواقع الاجتماعية، كذلك نجد المئات من يطبعون كتبًا ورقية يذهب معظمها هدايا للعائلة والأصدقاء والزملاء... ولا يُقرأ منها سوى الإهداء. أولا: دع القارئ يشاركك "اللعبة" يظن البعض أن الكلام الإبداعي (الشعر تحديدًا) يحتاج إلى قول كلام واضح وصريح ومكرر، كي يفهم القارئ المعنى المقصود، بظنهم أنهم يقدمون خطابًا جماهيريًا، أو بظنهم أن القارئ يحتاج إلى التوسع في القول ليفهم ما يكتبون... طبعًا هذا الأمر هو في الحقيقة، خاطئ، لأنك تثقل نصّك بكلام زائد، ما يجعل عبارتك ثقيلة، وسطحية، وساذجة، وتفتقر إلى سحر الدهشة. فالضوء الساطع يمنع الناس من رؤية جمال المشهد، لأن جماليته تتكامل بعنصرين: الضوء والظل؛ فإذا كان الضوء هو الكلام المكتوب، فالظل هو ما خلف الكلام، وهو ما يدفع القارئ للدخول معك، في لعبة البحث عن المعنى المقصود. لذا، دع القارئ يشاركك اللعبة، ولا تحرمه من هذه اللذة، وإلا سيدعك ويتجه إلى كتّاب وشعراء آخرين. فمثلاً، إذا بامكانك أن تقول: "إن البحر حكاية"، لا تقل: "إن البحر الأزرق يحتضن عشرات الغرقى، وكانت لكل واحد منهم، حكاية". ثانيًا: القصيدة ليست بيتزا يسارع بعض الشعراء الشباب تحديدًا، إلى مواكبة الأحداث، فتجدهم يكتبون "قصيدة" بناءً لوقوع حدث ما، أو كارثة، أو بناءً لطلب، وكأن الشاعر أصبح مطعم بيتزا جاهزًا بكبسة زر، أن يلبي جميع رغباتك، ويقدم لك مكونات الوجبة التي تريدها. وإذا كان الكثير منّا يحبّ البيتزا، ويحبّ أن يبادر هو شخصيًّا لأن يحدد مكوناتها من جبنة وزيتون وفطر أو من دون بصل مثلاً، فمن المؤكد أنه سيكتشف أن القصيدة ليست بيتزا. ولعلنا كلنا نعلم أن كثيرًا من القصائد قد "انتهى مفعولها" عندما انتهى الحدث، وأصبحت من دون قيمة أدبية تذكر. لا أقصد من هذا الكلام أن تعيش في برج عاجي، أو بعيدًا من مشاكل مجتمعك، أو تعيش خارج التاريخ والزمن. بالطبع ليس هذا المقصود من كلامي، إنما القصد أن تتجنب الكتابة المباشرة عن حدث تصبح اللغة كلها أمامه، صغيرة، وعاجزة، ولا يمكن لأي كلام أن يعبر عنه. فأنت لست رجل سياسة لتسجل الموقف المناسب في الوقت المناسب، وأنت لست آلة اكسبرسو جاهزة لصنع فنجان قهوة مرّة، لحظة وفاة أمك أو أبيك أو حبيبك... أنت شاعر وعليك أن تعي ذلك في صميمك. لذا، انتظر، خذ نفسًا، اقضِ هذا الوقت بالتأمل، بالبحث عن تفاصيل يستطيع شعرك أن يحلق معها، من دون أن تكون ثقيلة عليه، وتسبب بسقوطه بعد عدة أمتار. صحيح أنه عليك أن تكتب اللحظة، لكن عليك في الوقت نفسه، أن تكتب المجهول الذي تحسّه من دون أن تعرفه. من هنا، ليكن شعرك هو الحدث، لا عالة على حدث آخر، يقتات منه ليأخذ أوكسجينًا مؤقتًا ومصطنعًا. ثالثًا: لا تكتفِ بـ"وجبة واحدة" يظن الكثير من الشعراء الشباب أن الكتابة الجيدة والجاذبة تأتي بفعل الاهتمام باللغة والقراءات الكثيرة. لا شك أن هذا الظن صحيح، لكنه لا يكفي. لأن الشعر لا يرتكز على اللغة والكلام فحسب، إنما – وكما أشرنا أعلاه – يقوم على عنصر آخر، وهو ما خلف اللغة والكلام. لذا، لا يمكن لنصٍّ أن يلقى الاهتمام إذا كان عبارة عن "فذلكة لغوية وكتابية"، فاللغة ليست هدفًا بذاتها، إنما هي وسيلة من وسائل أخرى، لنعبر من خلالها عمّا نفكر به، ونحسّه، ونحتاجه، وللتواصل مع الآخرين. وفي كثير من المواقف، يمكن لنا أن نستغني عن الكلام، ونكتفي ببسمة أو بضحكة أو بدمعة أو بصرخة أو بإشارة وإماءة... لذا، الشعر يحتاج إلى "وجبات أخرى" تغذّيه، منها مثلاً: مشاهدة الأفلام، والاستماع إلى الموسيقى والأغنيات، وممارسة المشي في الطرقات أو في الطبيعة، والاستماع إلى أحاديث الناس، والمشاركة في أفراحهم وأحزانهم... كل هذه وغيرها، ستجد أنها مع الوقت، تنفخ روحًا مختلفة في نصّك، وتجعلك تعبر نفسك بشفافية، لأنك تدرك أن الناس يتقاطعون ويتشاركون بالكثير من المشاعر والانفعالات والأفكار، لكن ليس لدى الجميع، القدرة على وضع كلمة في نصّ شعري. * شاعر وأستاذ جامعي من لبنان