دوميط منعم
كاتب وشاعر لبنانيعن دوميط منعم
وُلدتُ عام ١٩٦٨ في قرية اجدبرا، قضاء البترون، محافظة لبنان الشماليّ، في كنف عائلةٍ مسيحيّةٍ، بحيث تربّيت مع شقيقي وشقيقتيّ على محبّة بعضنا بعضاً وعلى محبّة القريب. عُجنتُ بخميرة الإيمان على أيدي والديّ، وخُبزتُ في أفران الحياة على نار التحدّي والطموح. تلقّيتُ دروسي الإبتدائيّة والمتوسّطة في مدرسة مار الياس لراهبات العائلة المقدّسة المارونيّات في البترون، ثمّ تخرّجت من ثانويّة البترون الرسميّة، فرع الرياضيّات، وتخصّصت بعدها بالعلوم التجاريّة في معهد ليسّيه أدونيس في البترون أيضاً. بعد السنة الدراسيّة الثانية في المعهد، وبينما كنت أعمل خلال العطلة الصيفيّة للمساهمة في تكاليف الأقساط، أصبت بحادث في المرفأ، الذي أدّى بي إلى شلل رباعيّ بالإضافة إلى توقّف جهازي التنفسيّ عن العمل، وأنا أعيش من حينها بين الآلات في مستشفى الدكتور إميل بيطار في البترون، خاصّة آلة التنفّس الإصطناعيّ، بحيث أنّ حياتي مرتبطة بها... نولد في هذه الحياة من دون إرادتنا فتسير بنا إلى حيث تشاء، تحمّلنا أوزارها، تكسر أجنحتنا. منّا من ينقاد لها فتستعبده ومنّا من لا يرضى سوى الحريّة رفيقة له، فيسير بالحياة إلى حيث هي لا تشاء. هكذا كانت مسيرتي مع الحياة، طفلٌ أَحبّها فعاش بها ولها من دون أن يعرف هواها، ثمّ شابّ تمرّس على هواها محاولاً مماشاتها على غير هدى إلى أن غيّرت طريقه عنوةً، فبادرها بتبنّي آلامها حتّى الثمالة، وكان التحدّي بعدم الإستسلام للموت بل بالتسليم للإرادة الإلهيّة وبالتالي مصارعة الحياة بدقائقها وساعاتها وأيّامها إلى أن أصبحت بسنينها ال ٥٠ إختبار غنيّ بالمشاعر الإنسانيّة على تنوّعها... ففقدان الإحساس الخارجيّ قاد “مخلّع البترون” إلى كنَه الإحساس الداخليّ الحقّ. شلل الأطراف قاده إلى أن يكون سبّاقاً على دروب الحريّة. فقدان التنفّس قاده للبحث في النفْس: “خذ ما شئت من الحياة شرط أن لا تقع عبداً لها"... ١٢ تمّوز ١٩٨٩، كان موعداً مع الألم. تلقّى الأهل خبر الحادث كلٌّ بطريقة، ولكن وقع الصدمة كان واحداً على الجميع. بدايةً، لم يصدّقوا الخبر! فقد كنت ذاك الشابّ المتيقّظ دائماً للمخاطر. بعد العمليّة الجراحيّة أعطانا الطبيب ثلاثة أشهر، ثمّ ستّة كأملٍ بتحسّن الوضع، أمّا أنا فكان رجائي بالربّ أعظم. وكما كتبت مرّةً: "إذا كان الأمل مِفتاح الأرض كِلّا بيضلّ الرجا مِفتاح قلب ألله"... كيف أخبر عن سنين من الألم؟ كيف أخبر عن إيمان أصبح ناضجاً بسبب الألم؟ كيف أخبر عن صلاة بنكهة الألم؟ فمن اللّحظة الأولى لاسترجاعي الوعي الكامل بعد الحادث بأسبوع تقريباً، كانت الصلاة زادي الوحيد بما أنّني كنت لا أستطيع تناول الطعام لفترة خمسة أشهر، ثمّ أصبح الكتاب المضادّ للألم وقاتل الوقت رفيقي ولم يزل حتّى الآن. قرأت الكتاب المقدّس مرّات عديدة ولم أزل أتغذّى منه. قرأت كتباً روحيّةً وأدبيّةً وسِيَر قدّيسين. تعلّمت الكثير، فراودني شعور من أراد أن ينقل اختباره إلى كلّ العالم، وهكذا ابتدأت والدتي وبعض الأصدقاء بتدوين ما كنت أُمليه عليهم من أفكار على الأوراق إلى أن أصبحت كتاباً، ثمّ كتباً بفضل كاهن صديق وكثير من الأصدقاء. والآن أستعين في كتاباتي بجهاز كمبيوتر خاصّ يعمل بواسطة العينين فيسهّل بهذا كلّ أموري ويعطيني بعض الإستقلاليّة، كما أتواصل من خلاله مع جميع الأصدقاء عبر أقطار العالم الأربعة. هكذا، رحت أبحث عمّا في نفسي من مواهب، فوجدت ما يجعلني أعبّر عن ذاتي وأنقل من خلاله إختباري مع الألم، فكتبت من سنة ٢٠٠٠ حتّى الآن أربع كتب في الأمور الروحيّة، الوجدانيّة، والإنسانيّة. فأثبتُّ ذاتي ككاتب، وكشخص عامل ومنتج في مجتمعه. أربعة كتب: “مخلّع على دروب الحريّة” ، “خبزاً للآخرين...” ، “مخاض السواقي...” ، “صدى السكوت...”، كانت ولن أتوقّف طالما أعطاني الله محبّة معطاءة مغمّسة بالألم والإيمان والرجاء... لقد مررت بفترات طويلة من الوحدة، ولكنّ الله عوّضني بالكثير من الأصدقاء، إنّما للأسف فالعالم ينسون أو تأخذهم الحياة والظروف فيبتعدون مع الوقت، إلى أن يبقى منهم القليل. فمن الذين ضحّوا بالكثير من أجلي، والدتي التي لم تتركني من اللّحظة الأولى، فكانت وما زالت تخدمني، حتّى وهي مريضة. وهنا أسخّر أحرفي لأشكرها، وأيضاً لأشکر کلّ من هم سبب من أسباب إستمراريّتي، لا بل لکلّ من هم إکسير لحياتي. ولكن منهم أيضاً من حاربني، فقد كنت أجد نفسي مراراً كشخص مهمَلٍ، منبوذٍ، مرفوضٍ من الكثيرين، وذنبي الوحيد باعتقادهم أنّني لم أكن في المكان المناسب. فكان هناك محاولات كثيرة لعدم وضعي على آلة التنفّس الإصطناعيّ، أو لإخراجي من المستشفى بدون تأمين الآلات المناسبة لوضعي، أو كما قيل مرّة لأهلي: “لو مات ابنكم كان أريح لكم وأريح لنا". فكنت أواجه تلك الأمور بالصمت، تحت ضغط نفسيّ رهيب، وأيضاً بالبسمة والتسليم الكلّيّ لله. ولكن ما آلمني أكثر من هذه الحياة، هو ما أصاب أختي الصغرى من شلل نصفيّ إثر حادثِ سيرٍ. فرُحت أعاتب الحياة التي لا تشبع من إيلامنا، ولكن لم أنكسر لها. فصرت كلّما بادرتني بصفعة أبادلها ببسمة، ولن أنكسر... مِنَ الناس مَن يحبّ، منهم من يتعاطف ومنهم من يشفق، وقد اختبرت منهم الكثير. فكنت أبادل الجميع بالمحبّة، وألغيت من قاموسي كلمة “حرام”، وعندما تَرِد على مسمعي أعلّم الآخرين ضرورة عدم قولها. أمّا مَن تسبّب لي بالحادث، فقصّتي معه تحمل عنوان “المسامحة” فمن اللّحظة الأولى حمّلت أبي كلاماً أرجوه من خلاله العودة إلى عمله، لا بل أشكره، لأنّه وبطريقة غير مباشرة، جعلني أخطي خطوتي الأولى من خطوات المسامحة والمحبّة... إنّ جمودي الظاهر في جسدي قد حرّر نفسي، هذا أيضاً أحد عناويني في الحياة. من قال إذا تخلّع الجسد فإنّ الإنسان لا يعود إنساناً؟ من قال أنّه إذا خسر شيئاً أو كثيراً من قدراته العقليّة، يخسر صفته كإنسان؟ نعم، كلّنا أناس لا نختلف عن بعضنا سوى بما نقدّمه للشخص الآخر من محبّة. أنا إنسان أَحبّ الحياة ولم يزل، وكان وقتي مليئاً بالنشاط. وجدت نفسي يوماً مسمّراً على سرير تحيط بي الجدران من كلّ ميل. هل استطاعت تلك الجدران أن تحدّ من حركتي وطموحاتي؟ لا! طبعاً لا! وإلّا لكنت الآن أعيش في زمن الرماد... أن تغيّروا ذواتكم فأنتم بحاجة لأكثر من أعماركم، فمسيرة التغيير هي عمل يوميّ. رغم هذا لا تتوقّفوا في منتصف الطريق. أخيراً، هاكم وصيّتي للمجتمع بكلّ اختلاف أفراده، أن احترموا إختلافاتكم وتعلّموا أن لا فضل لأحدٍ على الآخر سوى بالمحبّة...
دوميط منعم
وُلدتُ عام ١٩٦٨ في قرية اجدبرا، قضاء البترون، محافظة لبنان الشماليّ، في كنف عائلةٍ مسيحيّةٍ، بحيث تربّيت مع شقيقي وشقيقتيّ على محبّة بعضنا بعضاً وعلى محبّة القريب. عُجنتُ بخميرة الإيمان على أيدي والديّ، وخُبزتُ في أفران الحياة على نار التحدّي والطموح. تلقّيتُ دروسي الإبتدائيّة والمتوسّطة في مدرسة مار الياس لراهبات العائلة المقدّسة المارونيّات في البترون، ثمّ تخرّجت من ثانويّة البترون الرسميّة، فرع الرياضيّات، وتخصّصت بعدها بالعلوم التجاريّة في معهد ليسّيه أدونيس في البترون أيضاً. بعد السنة الدراسيّة الثانية في المعهد، وبينما كنت أعمل خلال العطلة الصيفيّة للمساهمة في تكاليف الأقساط، أصبت بحادث في المرفأ، الذي أدّى بي إلى شلل رباعيّ بالإضافة إلى توقّف جهازي التنفسيّ عن العمل، وأنا أعيش من حينها بين الآلات في مستشفى الدكتور إميل بيطار في البترون، خاصّة آلة التنفّس الإصطناعيّ، بحيث أنّ حياتي مرتبطة بها... نولد في هذه الحياة من دون إرادتنا فتسير بنا إلى حيث تشاء، تحمّلنا أوزارها، تكسر أجنحتنا. منّا من ينقاد لها فتستعبده ومنّا من لا يرضى سوى الحريّة رفيقة له، فيسير بالحياة إلى حيث هي لا تشاء. هكذا كانت مسيرتي مع الحياة، طفلٌ أَحبّها فعاش بها ولها من دون أن يعرف هواها، ثمّ شابّ تمرّس على هواها محاولاً مماشاتها على غير هدى إلى أن غيّرت طريقه عنوةً، فبادرها بتبنّي آلامها حتّى الثمالة، وكان التحدّي بعدم الإستسلام للموت بل بالتسليم للإرادة الإلهيّة وبالتالي مصارعة الحياة بدقائقها وساعاتها وأيّامها إلى أن أصبحت بسنينها ال ٥٠ إختبار غنيّ بالمشاعر الإنسانيّة على تنوّعها... ففقدان الإحساس الخارجيّ قاد “مخلّع البترون” إلى كنَه الإحساس الداخليّ الحقّ. شلل الأطراف قاده إلى أن يكون سبّاقاً على دروب الحريّة. فقدان التنفّس قاده للبحث في النفْس: “خذ ما شئت من الحياة شرط أن لا تقع عبداً لها"... ١٢ تمّوز ١٩٨٩، كان موعداً مع الألم. تلقّى الأهل خبر الحادث كلٌّ بطريقة، ولكن وقع الصدمة كان واحداً على الجميع. بدايةً، لم يصدّقوا الخبر! فقد كنت ذاك الشابّ المتيقّظ دائماً للمخاطر. بعد العمليّة الجراحيّة أعطانا الطبيب ثلاثة أشهر، ثمّ ستّة كأملٍ بتحسّن الوضع، أمّا أنا فكان رجائي بالربّ أعظم. وكما كتبت مرّةً: "إذا كان الأمل مِفتاح الأرض كِلّا بيضلّ الرجا مِفتاح قلب ألله"... كيف أخبر عن سنين من الألم؟ كيف أخبر عن إيمان أصبح ناضجاً بسبب الألم؟ كيف أخبر عن صلاة بنكهة الألم؟ فمن اللّحظة الأولى لاسترجاعي الوعي الكامل بعد الحادث بأسبوع تقريباً، كانت الصلاة زادي الوحيد بما أنّني كنت لا أستطيع تناول الطعام لفترة خمسة أشهر، ثمّ أصبح الكتاب المضادّ للألم وقاتل الوقت رفيقي ولم يزل حتّى الآن. قرأت الكتاب المقدّس مرّات عديدة ولم أزل أتغذّى منه. قرأت كتباً روحيّةً وأدبيّةً وسِيَر قدّيسين. تعلّمت الكثير، فراودني شعور من أراد أن ينقل اختباره إلى كلّ العالم، وهكذا ابتدأت والدتي وبعض الأصدقاء بتدوين ما كنت أُمليه عليهم من أفكار على الأوراق إلى أن أصبحت كتاباً، ثمّ كتباً بفضل كاهن صديق وكثير من الأصدقاء. والآن أستعين في كتاباتي بجهاز كمبيوتر خاصّ يعمل بواسطة العينين فيسهّل بهذا كلّ أموري ويعطيني بعض الإستقلاليّة، كما أتواصل من خلاله مع جميع الأصدقاء عبر أقطار العالم الأربعة. هكذا، رحت أبحث عمّا في نفسي من مواهب، فوجدت ما يجعلني أعبّر عن ذاتي وأنقل من خلاله إختباري مع الألم، فكتبت من سنة ٢٠٠٠ حتّى الآن أربع كتب في الأمور الروحيّة، الوجدانيّة، والإنسانيّة. فأثبتُّ ذاتي ككاتب، وكشخص عامل ومنتج في مجتمعه. أربعة كتب: “مخلّع على دروب الحريّة” ، “خبزاً للآخرين...” ، “مخاض السواقي...” ، “صدى السكوت...”، كانت ولن أتوقّف طالما أعطاني الله محبّة معطاءة مغمّسة بالألم والإيمان والرجاء... لقد مررت بفترات طويلة من الوحدة، ولكنّ الله عوّضني بالكثير من الأصدقاء، إنّما للأسف فالعالم ينسون أو تأخذهم الحياة والظروف فيبتعدون مع الوقت، إلى أن يبقى منهم القليل. فمن الذين ضحّوا بالكثير من أجلي، والدتي التي لم تتركني من اللّحظة الأولى، فكانت وما زالت تخدمني، حتّى وهي مريضة. وهنا أسخّر أحرفي لأشكرها، وأيضاً لأشکر کلّ من هم سبب من أسباب إستمراريّتي، لا بل لکلّ من هم إکسير لحياتي. ولكن منهم أيضاً من حاربني، فقد كنت أجد نفسي مراراً كشخص مهمَلٍ، منبوذٍ، مرفوضٍ من الكثيرين، وذنبي الوحيد باعتقادهم أنّني لم أكن في المكان المناسب. فكان هناك محاولات كثيرة لعدم وضعي على آلة التنفّس الإصطناعيّ، أو لإخراجي من المستشفى بدون تأمين الآلات المناسبة لوضعي، أو كما قيل مرّة لأهلي: “لو مات ابنكم كان أريح لكم وأريح لنا". فكنت أواجه تلك الأمور بالصمت، تحت ضغط نفسيّ رهيب، وأيضاً بالبسمة والتسليم الكلّيّ لله. ولكن ما آلمني أكثر من هذه الحياة، هو ما أصاب أختي الصغرى من شلل نصفيّ إثر حادثِ سيرٍ. فرُحت أعاتب الحياة التي لا تشبع من إيلامنا، ولكن لم أنكسر لها. فصرت كلّما بادرتني بصفعة أبادلها ببسمة، ولن أنكسر... مِنَ الناس مَن يحبّ، منهم من يتعاطف ومنهم من يشفق، وقد اختبرت منهم الكثير. فكنت أبادل الجميع بالمحبّة، وألغيت من قاموسي كلمة “حرام”، وعندما تَرِد على مسمعي أعلّم الآخرين ضرورة عدم قولها. أمّا مَن تسبّب لي بالحادث، فقصّتي معه تحمل عنوان “المسامحة” فمن اللّحظة الأولى حمّلت أبي كلاماً أرجوه من خلاله العودة إلى عمله، لا بل أشكره، لأنّه وبطريقة غير مباشرة، جعلني أخطي خطوتي الأولى من خطوات المسامحة والمحبّة... إنّ جمودي الظاهر في جسدي قد حرّر نفسي، هذا أيضاً أحد عناويني في الحياة. من قال إذا تخلّع الجسد فإنّ الإنسان لا يعود إنساناً؟ من قال أنّه إذا خسر شيئاً أو كثيراً من قدراته العقليّة، يخسر صفته كإنسان؟ نعم، كلّنا أناس لا نختلف عن بعضنا سوى بما نقدّمه للشخص الآخر من محبّة. أنا إنسان أَحبّ الحياة ولم يزل، وكان وقتي مليئاً بالنشاط. وجدت نفسي يوماً مسمّراً على سرير تحيط بي الجدران من كلّ ميل. هل استطاعت تلك الجدران أن تحدّ من حركتي وطموحاتي؟ لا! طبعاً لا! وإلّا لكنت الآن أعيش في زمن الرماد... أن تغيّروا ذواتكم فأنتم بحاجة لأكثر من أعماركم، فمسيرة التغيير هي عمل يوميّ. رغم هذا لا تتوقّفوا في منتصف الطريق. أخيراً، هاكم وصيّتي للمجتمع بكلّ اختلاف أفراده، أن احترموا إختلافاتكم وتعلّموا أن لا فضل لأحدٍ على الآخر سوى بالمحبّة...
تعريف: كاتب وشاعر لبناني