نبضاتٌ روحيَّة

عن نبضاتٌ روحيَّة

أبرز ما يفاجئك في كتاب " نبضات روحيّة " للأب رواد كعدي أنّه يتجاوز الموضوع المحدّد، أو العنوان المحدّد وبالتّالي الإطار المحدّد لتجربته. يقطفُ نبضاته من محيطٍ بدل أن يقطفها من حديقة. تحسّهُ ينهض، فوق السّهل، بدل أن يتحرّك في درب. نبضاته كالفضاء، تتنقّحُ بالشّموس والفصول، فلا يأسرُها طائرٌ ولا تحدّها عصورٌ ولا يلبسُها جسد. إنّها "رواداتٌ" بلا حدود. إنّها الّتي لا تبدأ ولا تنتهي، أو الَّتي بدأت ولا تعرفُ أن تنتهي. هل هي بحرٌ من الحريّة، أقوى من الزّمان وأقوى من المكان؟ هل هي الرّعشة الّتي تزدهرُ في المطلق؟ في الموت؟ في الحياة؟ في الفناء؟ في الوجود؟ في الكائن؟ في الآخر؟ في نفسها؟ في ولادتها؟ في صيرورتها؟ نبضاتٌ تحسّها نهراً، ماءً غزيراً، فوهةً... وإنّك تعرف ينبوعها ولا تعرف مصبّها. أليست هي الحالات المطلقة؟ الحالات الّتي تأخذ شكلها ولا تبقى ولا تستقرّ ولا تُلحظ، بل تلمع، برقِّ الظّنّ أو لمحِ الحلم والشّاعريَّة، في آخر المطاف، هل هي ما قبل الحدود أو ما بعدها؟ هل هي بين مسافة ما بين الكلمة وسابقها؟ مسافة ما بين المغامرة والحدس؟ مسافة ما بين الذّات ومُعطي الذّات؟ الأب رواد كعدي، يُحيي نصّه فيجعله صافياً، غنائيّةً عارية، ملمومةً من المياه وإلى شفافيّتها يعود، محنيّاً إلى الدّاخل هذه المرّة، إلى القلب لا بل إلى قلب القلب. ولهذا، فمهما بدا، هو لا محال مفلتٌ من العناصر والفصول والفضاء لأنّه يكتب العزلة الّتي تشرئبُّ من نافذة الضّوء، أو تلك الّتي تتلفّت بين كسور الزّمن الفالت وتأمّلاته الباردة وبين أشكال الوجود الّتي لا هيئة لها وفيها يكمن كلّ الوجود. من هنا حرارة هذه النّبضات واشتعالها الخصب الّذي يسري وكأنّه الحريق حولك يلفّك. هذا الوجد يرسم شكل النّبضات، ويختارُ كلماتِها، تراكيبَها، فضاءَها وإيحاءاتِها. أوَليس هذا ما يجعل النّبضات " الرّواديَّة " متأرّجة بين هاجس التّعبير وفضاء الحالة، بين وقعة الإزميل المرهفة والفضاء الشّاسع؟ هذه التّجربة كيانيّة، لها عالمها وحالتها. وعالمها حركةٌ متوتّرة بين الهلاك والخلاص، بين الموت والقيامة، بين الأرض والسّماء. في صعوده يتوهّج. في سقوطه يتناثر. وبين صعوده وسقوطه يرتفع على الصّليب وعليه يضيء وينتظر. هذه تجربةٌ مصيريّة في زمنٍ يفيض بالأصوات المسطّحة. وأن تكون التّجربة قد تحوّلت إلى نبضاتٍ فشيء مستغرَب. إنّها تفاجئنا كجزيرة في بحرٍ لأنّها تجربة وجوديّة تجسّدت حياةً خضراء. "نبضاتٌ روحيّة" أرادها الأب رواد، فبناها على الحالات الأكثر تشابكاً والأكثر تناقضاً: من تشويش إلى صفاء، من توغّل في الظّلمة إلى إنقشاع أبهى، من اللاتوازن المُغري بالمغامرة واللامعقول إلى التّوازن الهادف إلى الحكمة. "نبضاتٌ روحيّة" واضحة المصدر، غريبة الأصل، عارفةٌ الغاية ومجهولة الوطن. تأخذ في حركتها شكل الهواء العابر بين القارّات والفصول لتعلو بنا. طوبى لمن ساقه الأب رواد إلى فوق فسافر به الله إلى الفوق.

صانع المحتوى: رواد كعدي

الفئة: أقوال