تشكو الأم ابنها، أمام صديقتها: ابني لا يقرأ، لا أعرف ماذا أفعل كي أحببه بالقراءة؟ تجيب الصديقة، بعد أن تهزّ برأسها: لا تحزني، هذه مشكلة هذا الجيل؛ فابني أيضًا، من النادر أن أجده يفتح كتابًا...! من الواضح أن كلام هاتين السيدتين، نسمعه في معظم البيوت؛ فمن يبدي حزنه لأنه اشترى لابنه مجموعة من القصص، ولم يقرأ منها شيئًا، إلى آخر يصرّ على اصطحاب ابنه إلى المكتبة، علّه بذلك يحببه بالكتب والقراءة، لكن من دون جدوى. وطبعا، أساليب الأهل لا تنتهي، وكلها تهدف إلى جعل القراءة محببة عند أبنائهم. لكن السؤال الذي يطرح هنا: هل فعلاً أولادنا لا يقرأون؟ لا بد من الاعتراف بدايةً، أن فعل القراءة بوصفه ممارسة يومية، بل كل ساعة، أصبح يشهد حضورًا شاسعًا، بسبب انتشار الأجهزة الذكية، ومواقع التواصل الاجتماعي، وما تقدمه من خدمات على صعيد التواصل بين المشتركين. لذا، لا يجد المرء سببًا مقنعًا لخوف الأهل على أولادهم من عدم القراءة، لأن القراءة قائمة فعلاً؛ فالإنسان عمومًا، والطالب (الابن أو الابنة) خصوصًا، يقرأ باستمرار، وهو يفعل ذلك من دون أن ينتبه؛ فهو يقرأ ما يُعطى له من محاضرات، ويقرأ ما يرسل له من رسائل أو طرائف، أو حكايات قصيرة عبر التقنيات الرقمية، وهو يقرأ ما ينشر على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو يقرأ ترجمات الأفلام الأجنبية، وغيرها الكثير؛ لذا، لا توجد مشكلة في ممارسة فعل القراءة، إنما المأمول في هذا النشاط المتواصل يوميًّا، أن يُوجّه إلى ما هو الأنسب، والأكثر تأثيرًا في تشكيل وعي الطالب/الابن أو الابنة. يلحظ إذًا، وعلى الرغم من وجود فوضى عارمة في التعاطي مع التقنيات الجديدة، فضلاً عن استخدام لغة ركيكة غالبًا، أن هناك ممارسة لفعل القراءة، وهي إذ تسلك حاليًّا دروبًا غير مثمرة ومفيدة عمومًا، إلا أنها تشكل أرضية يمكن البناء عليها للتفكير بعقلية جديدة في مقاربة ترغيب الإنسان العربي عمومًا، والطالب خصوصًا، بالقراءة، بعدما أظهرت الإحصاءات في هذا المجال، أن مجموع ما يقرأه الفرد العربي سنويًّا، لا يتخطى الصفحات المعدودة، مقابل عشرات الكتب التي يقرأها الغربي. لذا، يؤمل من الأهل الانتباه إلى مسألة شديدة الحساسية، وهي: ليس من المفيد إطلاق النعوت والصفات السلبية على ظاهرة الثورة التقنية (التكنولوجية) وأدواتها، بل المفيد الآن، هو تثميرها للانطلاق من خلال المساحة الشاسعة التي وفّرتها، نحو توظيف أساليب وطرائق فاعلة لتشجيع أولادهم على القراءة بلغة صحيحة، تلامس الإبداع قدر الإمكان، أو ما يمكن الإشارة إليه، بالتدرج في أنماط القرّاء، إذ تتوزع فئات القرّاء على ثلاث فئات، هي: - القارئ العادي الذي يكتفي باستهلاك العمل. - القارئ الناقد الذي يتخذ من العمل مادة للتحليل والتأمل. - القارئ الكاتب نفسه الذي يعدّ عمله بمثابة فسيفساء من النصوص التي سبق له أن قرأها. من هنا، ينتظر من الأهل بدلاً من الاستمرار في حالة التذمر، أن يعترفوا: أولاً: أن أبناءهم يقرأون، بل ويقرأون كثيرًا، لكن المأمول هو مساعدتهم في عملية التوجيه نحو القراءات المفيدة لهم. ثانيًا: أن أبناءهم يمتلكون مساحات من الوعي لم نكن نجدها في الأجيال السابقة، وهذا الوعي نتلمسه بقدرتهم الإبداعية على التعاطي مع وسائل التكنولوجيا، لتوظيف بعض القصص والحكايات والنكت والمواقف السياسية أو الاجتماعية بقالب تقني قريب من فهمهم وعصرهم. ثالثًا: نحن الأجيال السابقة، لا يمكن لنا أن نكون القدوة الصالحة دائمًا، لهذا الجيل أو نتفاخر بذلك؛ فتاريخنا يفيض بالدماء والحروب والصراعات وجرائم القتل، والتسبب بالكوارث البيئية والاقتصادية والاجتماعية... والقائمة تطول. فأين هي القدوة الصالحة التي ندعو إليها أبناءنا ليتبعوها! دعوا أبناءكم يختارون طرقهم، من دون ضغوطاتكم البلهاء، ووصاياكم المضحكة المبكية. نعم، يمكن لكم أن تراقبوهم من بعيد، وتتدخلوا في بعض المسائل التي تشكل خطرًا على حياتهم، لكن لا تتمادوا في ردود أفعالكم، ومواقفكم الصلبة، فلعلّ هذا الجيل ينقذنا من وحشيتنا وأنانيتنا، ويجعل الكرة الأرضية أكثر إنسانية. * شاعر وأستاذ جامعي من لبنان