لم يعد عامل إخراج النص الإبداعي عاملاً عابرًا في ظل ما يوفره النشر الإلكتروني من سمات وخصائص تمنح النص بعدًا دلاليًّا وجماليًّا وجاذبًا للقارئ؛ تبدأ بشكل الحرف والتحكم به، واختيار اللون والصورة المناسبتين، والربط بمؤثرات بصرية وصوتية، وخلفيات، وتوظيف مساحات فارغة تمنح العين الطمأنينة والراحة... فقد دخلت هذه الأدوات بشكل مؤثر في تشكيل النصّ الإبداعي، وأصبحت في الوقت نفسه، من ضمن مهام درس الباحث الذي يمكنه أن يتوقف عندها، ويستثمرها دلاليًا في النصّ وحواشيه. صحيح أن ناقد النص الإبداعي (أو القارئ) يرتكز أولاً وأخيرًا، على المضمون، واللغة، والأسلوب، والتراكيب،... لكن أليس منّا من صادف، أن أهمل نصًا بسبب فوضى القالب الإخراجي، أو بسبب فوضى استخدام علامات الوقف والترقيم، أو وضع صورة غير مناسبة، من دون نسيان العنوان غير الجاذب، والارتباك في استغلال المساحات الفارغة (البيضاء)، وتوزيع الأسطر أو الفِقر في مساحة الكتابة...؟ أسباب مختلفة ومتعددة من الممكن لها، أن تبعدنا من قراءة نصّ على الشاشة، مهما كان هذا النصّ يتمتع بمضامين مهمة، أو كان لكاتب لمعروف. من هنا، نسعى في هذه السطور إلى تقديم بعض الخطوات الإخراجية لجعل النصّ الإبداعي جاذبًا لقارئ اليوم، ولا سيما في ظل هذا الكم الهائل من النصوص التي تظهر بالعشرات بل بالمئات، في أقل من دقيقة. - أولاً: العناوين للنصّ الإبداعي عنوان يعلن عنه، ويوجّه معناه بصورة مسبقة، ويقول المثل المعروف: "الكتاب يقرأ من عنوانه". هذا العنوان غالبًا، لا يتعدى الكلمات الأربع، ويتألف من جملة اسمية (علمًا، أن القارئ اليوم، يمكنه أن يلحظ وجود عناوين معاصرة، قد كسرت هذه القاعدة، وتكون مكتوبة بصيغة الجملة الفعلية). لكن في هذه النقطة، على الكاتب المبدع أن يراعي الآتي: التناسب بين عدد كلمات العنوان وعدد كلمات النص، إذ من الأخطاء القاتلة مثلاً، وضع عنوان طويل لنص صغير، والعكس غير صحيح، لأن بالإمكان وضع عنوان من كلمة واحدة لنص طويل. الاستفادة من الخط العربي الإلكتروني بهدف التأثير على المتلقي، وقد يأتي العنوان على شكل رسمة يوضح دلالاته. إلا أن الملاحظ اليوم، هو الاعتماد شبه الكلي على التقنيات التي باتت توفرها البرامج التقنية للمبدع؛ فمن الممكن وضع العنوان ضمن أشكال متعددة، أو ظلال، أو خطوط نصف دائرية ومائلة،... أو ضمن هذا كله. يمكن تكبير حجم كلمة في العنوان وهي التي تعد من مفاتيح النص، مقابل تصغير بقية كلمات العنوان. وهذا النمط الطباعي للعنوان، يمكن الاستفادة منه أيضًا، على مستوى النصّ كله. ولعل الهدف الأبرز من هذه السمة الإخراجية للنصّ الإبداعي، جذب المتلقي، فتركز على إبراز بعض الكلمات أو الجمل، فتقدمها بأشكال متباينة عن سياق النص، كي تكسر من نمطية شكله، وتكسر في الوقت نفسه، نظرة الرتابة لدى قارئ النصّ. - ثانيًا: الرسوم والصور بات إرفاق الصورة (أو الرسم) مسألة مطلوبة عند نشر النصّ الإبداعي في العالم الرقمي، فمن ذلك وجود رسم إيضاحي يترجم ما يريد أن يقوله النصّ الإبداعي، أو إرفاق صورة للمبدع نفسه، أو وجود رسم إبداعي يحتاج بدوره إلى قراءة تحليلية لتبيان مساحات التلاقي بينه وبين النصّ. كذلك هناك رسم ينطلق من معطى أدبي، شعري خصوصًا. وقد أصبحت هذه الظاهرة، بحسب الشاعر والناقد اللبناني شربل داغر، ملازمة لمعظم النصوص التي تنشر في الفضاء الرقمي، ويمكن أن يرافق نشر القصيدة ليس الصورة فحسب، بل تقنيات رقمية أخرى أيضًا، منها مؤثرات سمعية – بصرية. لكن، مهما كان اختيارك للرسمة أو الصورة أو الفيديو...، عليك الانتباه، أن لا تجعل هذا الخيار عاكسًا مباشرًا لمضمون نصّك، أو شارحًا له، وإلا سيكتفي القارئ بالنظر إلى المرفق ويهمل قراءة النصّ. ليكن اختيارك دقيقًا وحذرًا، ومثلما تهتم بكتابة نصّك، عليك أن تهتم بالقدر نفسه، باختيار الصورة (الرسمة) المرافقة له. - ثالثًأ: استثمار العلامات والبياض يتشكل النصّ الإبداعي (الشعري والنثري) من عناصر تضفي عليه دلالات غير لغوية تمثل في انتشارها على الصفحة، الرسالة الأولى الموحية للقارئ، فيستطيع القارئ أن يميز مباشرة إن كان هذا النص شعرًا أم نثرًا. لكن هذا الرسالة الأولى قد تكون السبب أيضًا، في دفع القارئ إلى النفور إذا اتسمت باستخدام عابث للعناصر الآتية: علامات الوقف والترقيم: من أبرز استخداماتها في النصوص الإبداعية: النقطة (.)، والفاصلة (،)، علامة التأثير والانفعال والتعجب (!)، والاستفهام (؟)، والنقطتان (:)، والشرطة في الصيغ الحوارية (-)، والهلالان القوسان، وعلامة الحذف (...)، وعلامة التنصيص (" ")... فهذه العلامات لا يقتصر دورها على مساحة الراحة والانتباه في القراءة الصامتة أو القراءة المسموعة، بل لها أهمية في التنغيم، والإيقاع، والوقف، والنبرات الصوتية... وكثيرًا ما نجد مثلاً، بعض الكتّاب ينشرون بعد الجملة الإبداعية، مجموعة من النقاط المتلاحقة (..........) من دون أي مسوغ لها، لأن دلالة الكلام المضمر يقتصر على وضع النقاط الثلاث فحسب (...)، فما الداعي إذًا إلى أربع نقاط أو خمس نقاط أو عشر نقاط! إن الاستخدام العبثي لهذه النقاط، يوحي مباشرة إلى القارئ أن كاتب النص عاجز عن التعبير عن أفكاره، وبالتالي غير قادر على التقاط المعنى المناسب لما يريد قوله، أو يشعر به... فلماذا أخسر الوقت في قراءته؟ توزيع الفقر: تطمئن عين القارئ إلى وجود المساحات البيضاء في النص، لأنه يرى أن هذه المساحات مخصصة له ليلتقط أنفاسه، ويستعيد ترتيب ما قرأه في ذهنه. لذا لا تجعل من نصك فقرة واحدة، يلهث القارئ في قراءته بحثًا عن نقطة النهاية. اهتم بتوزيع الفِقر في الصفحة، وحاول أن تقدم جملاً قصيرة، واستثمر قدر الإمكان أدوات الربط، فهي موجودة بالعشرات، لتستخدمها في بناء نصّك. الصوت/ الصمت: ليس عبثًا وجود مساحات بيضاء في النصوص الحديثة، وخصوصًا في الشعر، فالأبيض مساحة الصمت أو الحقل المخصص للقارئ كي يزرعه بما يشاء بعد أن يستمع/يقرأ سطر الكاتب في المساحة السوداء/ الصوت. لذا، إذا كان الكاتب حرًا في بسط سيادته على مساحة الصوت ويرمز إليه بالسواد (أي المكتوب)، عليه في الوقت نفسه، أن يحترم سيادة الأرض المخصصة لقارئه، والمعبر عنها بالصمت ويرمز إليها بالبياض. وبالتالي من المفيد الانتباه إلى هذه المساحة، وعدم العبث بها، فأبرز عناصر نجاح النص الحديث اليوم، هو في خلق هذه العملية التشاركية والتفاعلية بين المرسل/المبدع والمرسل إليه/القارئ المتلقي. كذلك في هذا الجانب، من المفيد الانتباه إلى الفراغ والمساحة المفتوحة، وهي تبرز – عادةً - بين مقاطع النصّ المنشور في الفضاء الرقمي، بهدف توليد انتقالة إيقاعية، والتمهيد إلى الانتقال من حالة إلى أخرى، فضلاً عن أثر هذا الفراغ المريح للعين، بسبب ما تولّده من مساحات بيضاء في الصفحة. هذه بعض الخطوات المساعدة في إخراج النص المنشور في الفضاء الرقمي، وهناك خطوات كثيرة غيرها. لكن مهما يكن، ينتظر من الكاتب أن يحافظ على الشعرة الدقيقة الفاصلة في كل ذلك؛ فالنص السيء وإن كان يتمتع بتقنيات إخراجية باهرة، سيجعل كاتبه يخسر القارئ مستقبلاً، بينما هذه القاعدة لا تنطبق بالضرورة، على النص الجيد ذي الإخراج السيء، لأن ببساطة، القارئ اليوم، بات بإمكانه أن يقدم النص الذي يحبّه ويعبّر عنه، بعشرات الأشكال الإخراجية الحديثة الجاذبة. لذا، إذا كان من واجب الكاتب مراجعة ما يكتبه قبل تقديمه للقارئ، عليه اليوم، أن يراجع في الوقت نفسه، قدراته التقنية، وتنميتها وتطوريها باستمرار، كي يمنح من جهة، ناقده مساحة يمكن له أن يستثمرها دلاليًّا في قراءته للنص من خارج المساحة اللغوية، ومن جهة أخرى، كي يوفر على قارئه مهمة التحكم بتقديم نصّه إخراجيًّا إلى قرّاء آخرين، لكن بحسب رؤيته هو، ما قد يؤثر على مقاربة النص وأبعاده وفضاءاته اللغوية وغير اللغوية. * شاعر وأستاذ جامعي من لبنان