يبدو من المثير للشفقة عند هذا الجيل، أن نتحدث عن الشعر هذا النوع الأدبي المرتكز على المشاعر والانفعالات والعواطف في زمن تسيطر عليه الماديات، واللهاث خلف المال والشهرة، وسيطرة الأنا على قاعدة: "أنا ومن بعدي الطوفان". هذه الأجواء الضاغطة على مجتمعاتنا العربية، تدفع الكثير من معلمي الأدب إلى الوصول إلى مرحلة اليأس، وإعلان الاحباط بسبب عدم تمكنهم من جعل الشعر خصوصًا والأدب عمومًا، من المواد المحبوبة والمرغوبة من قبل شباب هذا الجيل. والكثير منّا يسمع كيف يتباهى الأهل أمام زوارهم، أو في لقاءاتهم العامة والخاصة، بأن أولادهم بارعون في المواد العلمية مثل الرياضيات والفيزياء والكيمياء من دون أن يشيروا حتى بإشارة بسيطة، إلى أن ولدهم يحبّ مادة الأدب أو أنه بارع في تحليل الشعر. تراكم هذه السلوكيات وغيرها، جعل جيل الشباب مع مرور الوقت، يقتنعون في قرارة أنفسهم، أن التعلق بالأدب وبالشعر، من الأمور التي لن تجد التشجيع أو الترحيب من قبل الأهل أو الناس عمومًا، وبالتالي تجدهم يقفلون في الحصص المخصصة للأدب والشعر، معظم المنافذ التي من الممكن أن تغير قناعاتهم، أو أن يغيروا نظرة الافتخار بهم من قبل عائلاتهم. لكن، هل على المعلم أن يستسلم لهذا الواقع الذي يزداد يومًا بعد يوم؟ وهل صحيح أن المشكلة في نظرة الأهل فحسب، واستسلام الشباب لهذه الرغبة، أم المشكلة مثلاً في عجز بعض المعلمين عن إيجاد أساليب وطرائق جاذبة في تعليم المواد الأدبية ما يزيد الطينة بلّة؟ هنا محاولة لتقديم بعض الأفكار والطرائق التي من الممكن أن يستخدمها المعلم في صفّه لدفع الطلاب الشباب يتعلقون بالأدب عمومًا، والشعر خصوصًا، بل ويمكن لهم أن يفتخروا بذلك أمام عائلاتهم من دون خجل أو وجل أو تردد. أولاً: لنربط الشعر بالعصر تجهد المناهج التربوية في تقديم نماذج شعرية قديمة تتحدث عن الشاعر والشعر والأدب عمومًا، بصيغة "الماضي": كان الشاعر فلان...، وكانت قصيدة فلان... فضلاً عن التوسع في شرح بيئة النصوص التي يغلب عليها الحياة القديمة حيث كان الإنسان يعيش في خيمة، ويتنقل على جمل أو حمار... هذا الوضع للمنهج يدفع الطلاب الشباب للاعتقاد في لاوعيهم، أن حب الأدب وقول الشعر من العادات القديمة التي عفا عليها الزمن. وبالتالي يترسخ لديهم الاعتقاد أن حبّ الشعر أو قوله لم يعد موجودًا في عصرنا، وإذا وجد من يكتب الشعر، فهو من المؤكد – بحسب اعتقادهم - شخص يعيش في زمن آخر. طبعًا، هذا الاعتقاد غير صحيح، كذلك ليس القصد من هذا التسويغ أن يهمل المعلم الشعر القديم، لكن المطلوب منه أن يتمرد قليلاً على النظام والمنهج، ويبادر إلى تقديم نماذج من الشعراء المعاصرين يعبرون في شعرهم عن قضايا قد تهم جيل شباب اليوم وتتحدث عن عصرهم، وتتمتع بلغة قريبة من أذهانهم وطرائقهم في التفكير. ثانيًا: النوع لا الكم يولي بعض المعلمين أهمية للكم على النوع، فتجد المعلم في حصة الأدب يجهد في تقديم نماذج شعرية متنوعة يختلط فيها شعر الحب مع شعر الطفولة مع شعر الوطن... صحيح أن هدف المعلم هو أن يعرّف الطلاب على موضوعات الشعر وقضاياه المختلفة، لكنه في الوقت ماذا يفعل؟ إنه يشبه المزارع الذي يزرع في مساحة محددة التفاح مع البطيخ مع الخس، ولا يلبث بعد أيام قليلة، يجد هذا المزارع أن كل ما زرعه قد ذبل ومات. والأمر نفسه يمكن القياس عليه هنا، لذا ينتظر من المعلم أن يركز على موضوع واحد مع امكانية مقاربة الموضوع نفسه من قبل عدد من الشعراء المعاصرين. مثلاً: ليبدأ المعلم بالشعر الذي يتحدث عن الحب في عصرنا، فيقدم هذه النماذج بعمق، وبشروحات مبسطة عن كيفية قول المعنى الشعري بأساليب لغوية مختلفة. وليس خطأً أن يخصص عددًا من الحصص لشعر الحب، فهذا ربما من الممكن له أن يساهم لاحقًا، في إعادة تعزيز إنسانية الإنسان في روح هذا الجيل والأجيال القادمة، مقابل ما نشهده من حروب وقتل وجرائم وعنف كلها قائمة على المادة وتحويل الإنسان إلى سلعة رخيصة. والمصيبة أنها في تطور مستمر. ثالثًا: الشعر ليس عمودًا استكمالاً للخطوتين السابقتين، ينتظر من المعلم في الخطوة الثالثة، أن يقلل قدر الإمكان من تقديم نماذج شعرية كلاسيكية في حصصه، لأن هذه النماذج في كتابة الشعر العمودي باتت معروفة لدى الطلاب الشباب، فأقله بات يعرف هذا الطالب، أن هذا الشكل ينتمي إلى القديم، لذا تفتر حماسته، وتقلّ رغبته في اكتشاف النص، ومعرفة موضوعه. لذا، يبدو من المفيد من المعلم أن يفاجئ الطلاب دائمًا، بتقديم أشكال من النصوص لم يألفوها من قبل، وهذه الأشكال أصبحت متوافرة بكثرة بسبب أن القصيدة الحديثة وخصوصًا قصيدة النثر، ترتكز على قاعدة أن كل نص شعري يخترع شكله الخاص. رابعًا: ليشرح المعلم شعر الطالب يقضي معظم المعلمين وقتًا مهمًا من الحصة ليشرحوا لطلابهم الإطار النظري والسمات والخصائص والتحليل للشعراء الكبار والمعروفين... لا شك أن هذا الأمر لا بدّ منه، لكن ماذا لو قدم المعلم في كل حصّة، نصًّا كتبه أحد طلابه يرتبط بموضوع الدرس؟ وماذا لو طلب من زملاء هذا الطالب أن يحللوا نصّ زميلهم؟ طبعًا، هذا الأمر يخلق جوًّا ممتعًا في الصف يكسر من رتابة الحصّة، ويزرع لدى الطلاب الثقة بأن في إمكانهم أن يكتبوا شعرًا من الممكن أن يستحق القراءة والتحليل والدرس، وفوق ذلك، من الممكن أن يثير اهتمام زملائهم. إن اتباع هذه الطرائق (وهناك غيرها الكثير)، من الممكن في حال تطبيقها بوسائل تربوية محببة للطالب، أن تجعل المعلم يلحظ مع الوقت، أن أفضل طريقة لتعليم الطلاب تقنيات الشعر، هي أن يكتبوها بأنفسهم أيضًا. وتجعل الأهل يفتخرون بأن في بيتهم، شاعرًا يحتاجه الناس كما يحتاجون إلى الطبيب والمهندس والإداري والمحامي... * شاعر وأستاذ جامعي من لبنان